دراسات إسلامية

 

 

الحض على الإنفاق

 

بقلم : الأستاذ أشرف شعبان أبو أحمد / جمهورية مصر العربية (*)

 

 

 

 

 

     لقد شاء المولى - عز وجل - أن يغرس في حنايا الإنسان، مجموعة من الدوافع النفسية أو الغرائز، تسوقه سوقًا إلى السعي في الأرض وعمارتها، فكان منها حب الذات وحب البقاء وحب التملك وحب المال، حتى صار المال مطلب كل إنسان ومعشوقه في كل زمان ومكان، ولا حدود يقف عندها الإنسان في طلبه، سواء كان هذا المال نقديًا أو عينيًا، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى (وَتَأْكُلُوْنَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمَّا وَتُحِبُّونَ الْماَلَ حُبًّا جَمًّا) سورة الفجر آية 19-20 ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال) وكان من آثار ذلك شح الإنسان بما في يده، وحبه الاستئثار بالخيرات والمنافع دون الناس، قال تعالى (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا) سورة الإسراء آية 100 لذلك كان البخل والشح في بذل المال في سبيل الله ولخير الناس من أبغض الكبائر التي حذر منها الله ورسوله...(1) فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه جعله أحد المهلكات فقال: فيما رواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر بإسناد ضعيف (ثلاث مهلكات شح مطاوع وهوى وإعجاب المرء بنفسه) وخطب الرسول صلى الله عليه وسلم فقال (إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا) أخرجه أبوداود والنسائي. وقال تعالى في سورة الحشر آية 9 (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُوْنَ) قاصدا الفلاح لمن وقي من هذا الداء الفتاك. ومن أوائل ما أنزل من القرآن الكريم، في مكة، سورة الليل، وفيها يقسم الله تعالى فيقول: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأولَى * فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلا الأشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى) تتحدث الآيات عن صنفين من البشر، صنف، أثنى الله عليه، ويسره لليسرى، لأنه (أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ) فالإعطاء صفة من صفاته الأساسية، بجانب التقوى والتصديق بالحسنى، وأطلق القرآن وصفه بالإعطاء، ولم يقل ماذا أعطى ولا كم أعطى ولا نوع ما أعطى؛ لأن المقصود هنا أن نفسه نفس كريمة، معطية باذلة، لا لئيمة مانعة، فالنفس المعطية هي النافعة المحسنة، التي طبعها الإحسان وإعطاء الخير فتعطي خيرها لنفسها ولغيرها. وصنف آخر مقابل لهذا ذمّه الله تعالى ويسره للعسرى؛ لأنه (بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ) فهذا هو الصنف الشحيح اللئيم، الذي بخل بماله، وظن نفسه مستغنيًا عن الله وعن الناس، وكذب بما وعد الله من حسن العاقبة للمؤمنين الصادقين، أنذره الله (نَارًا تَلَظَّىٰ لاَ يَصْلٰهَا إِلاَّ الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ) مثل هذا الذي كذب بالحسنى، وتولى عن الإعطاء والتقوى (وَسَيُجَنَّبُها الأَتْقَى الَّذِيْ يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَىٰ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهَ رَبِّهِ الأَعْلَىٰ وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ). فليس  للإنسان المؤمن إلا أن ينتصر على نزعة الشح، وأن يستعلي على نوازع الأثرة والأنانية في نفسه، لضمان فلاحه في الدنيا والآخرة، والإنسان إذا تطهر من الشح والبخل واعتاد البذل والإنفاق ارتقى من حضيض الشح الإنساني، واقترب من أفق الكمالات الربانية، فإن من صفات الحق تبارك وتعالى، إفاضة الخير والرحمة والجود والإحسان دون نفع يعود عليه تعالى، والسعي في تحصيل هذه الصفات، تخلق بأخلاق الله، وذلك منتهى كمالات الإنسانية، قال عليه الصلاة والسلام: (تخلقوا بأخلاق الله) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن السخي قريب من الله تعالى قريب من الناس قريب من الجنة وإن البخيل بعيد عن الله بعيد عن الناس بعيد عن الجنة قريب من النار وجاهل سخي أحب إلى الله من عالم بخيل)...(2).

     وقد دعا الإسلام إلى البذل، وحض عليه في أسلوب يستهوي الأفئدة، ويبعث في النفس الأريحية، ويثير فيها معاني الخير والبر والإحسان، قال الله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) سورة البقرة آية 261 وقال عز وجل (لَنْ تَنَالُو الْبِرَّ حَتّٰى تُنْفِقُوْا مِمَّا تُحِبُّوْنَ وَمَا تُنْفِقُوْا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) سورة آل عمران آية 92 وقال (وَأَنْفِقُوْا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِيْنَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوْا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوْا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) سورة الحديد آية 7 وقال (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيْمٌ) سورة الحديد آية 11 ومنذ فجر الإسلام في مكة، والمسلمون أفراد معدودون مستخفون بدينهم مضطهدون في ديارهم، كان للقرآن عناية بالغة بالبر ورعاية المسكين وأداء حق السائل والمحروم، فالعبة التي على كل إنسان أن يجتازها حتى يصل إلى رضاء الله، تتمثل في البر بالناس، من تحرير للرقيق وإطعام للمسكين واليتيم، قال تعالى (فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيْنًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِيْنَ آمَنُوا وتَوَاصَوْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْ بِالْمَرَحَمَةِ أولٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) سورة البلد الآيات 11-18 وفي سورة الضحى الآيات 9-10 (فَأَمَّا الْيَتِيْمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ) وفي سورة الذاريات آية 19 وصف الله تعالى المتقين بقوله (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) وفي سورة المعارج الآيات 24-25 (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوْمِ) وفي سورة القلم الآيات 19-20 يقص الله على المسلمين قصة أصحاب الجنة الذين اعتزموا أن يقطفوا ثمارها بليل ليحرموا منها المساكين (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُوْنَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيم) وفي سورة فصلت الآيات 6-7 ينذر الله المشركين بالويل ويجعل من أخص أوصافهم عدم إيتاء الزكوٰة (وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَيُؤْتُوْنَ الزَّكوٰةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُوْنَ) وفي سورة الشورى آية 38 يمدح الله المجتمع المؤمن (وَالَّذِيْنَ اسْتَجَابُوْا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوْا الصَّلوٰةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُوْنَ) وفي سورة الأنعام آية 141 (كُلُوا مِنْ ثَمَرِه إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوْا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) وفي سورة المزمل آية 20 قال تعالى: (وأَقِيمُوا الصَّلوٰةَ وَآتُوا الزَّكوٰةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَنًا)...(3) وقد جعل القرآن إهمال الحث على العناية بالمسكين، من موجبات الجحيم والعذاب الأليم، وفي هذا يقص علينا القرآن مشهدًا من مشاهد الآخرة بين أهل اليمين في الجنة وأهل الشمال في النار فأصحاب اليمين (فِي جَنّٰتٍ يَتَسَاءَلُوْنَ عَنِ الْمُجْرِمِيْنَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوْا لَمْ نَك مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) المدثر 40-44 فهنا كان ترك إطعام المسكين من موجبات الخلود في سقر، وأروع من ذلك وأعجب، أن القرآن لا يكتفي بإيجاب إطعام المسكين ومثل إطعامه كسوته ورعاية ضروراته وحاجاته، بل يزيد على ذلك فيجعل في عنق كل مؤمن حقا للمسكين أن يحض غيره على إطعامه ورعايته، ويجعل ترك هذا الحض من لوازم الكفر بالله والتكذيب بيوم الدين، نقرأ في هذا قول الله تعالى في سورة الماعون الآيات 1-7 (أَرَأَيْتَ الَّذِيْ يُكَذِّبُ بِالدِّيْنِ فَذٰلِكَ الَّذِيْ يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينَ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّيْنَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُوْنَ الَّذِيْنَ هُمْ يُرَاءُوْنَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) فقهر اليتيم وإهمال الحث على رعاية المسكين، جعلا دليلا على خلو القلب من الإيمان بالآخرة والتصديق بالجزاء، وما كان لمثل هذا الشخص من صلوٰة فهي صلاة الساهين المرائين. ويقول تعالى في شأن أصحاب الشمال (وَأَمَّا مَنْ أُوْتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِيْ لَمْ أُوْتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَىٰ عنّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) سورة الحاقة الآيات 25-29 ثم يصدر الله عليه الحكم الذي يستحقه (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيْمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذَرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) سورة الحاقة الآيات 30-32 ثم يذكر أسباب هذا الحكم الشديد (إِنَّه كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ) سورة الحاقة الآيات 33-34 فلا يجوز المؤمن أن يعيش في دائرة نفسه غافلاً عن واجبه تجاه الآخرين من ضعفاء ومساكين، فهذا نقص في إيمانه موجب لسخط الله في الدنيا والآخرة...(4)

     فضلاً على إن إنفاق المال بدلاً من اكتنازه، يعود برواج لحركة تداول المال وانتعاش للأسواق، فإن الإحسان إلى الفقراء، من عوامل سعة الرزق لكلا المنفق، والمنفق عليه، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن العباد ينصرون ويرزقون بسبب ضعفائهم، قال عليه الصلاة والسلام: (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم) رواه البخاري. فمن رغب في نصر الله تعالى إياه، ورزقه جل جلاله، فليكرم الضعفاء وليحسن إليهم. كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن رضاءه، يطلب بالإحسان إلى الفقراء، فقد روى الأئمة أحمد وأبوداود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ابغوني في ضعفائكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم) وقال الملا علي القاري في شرح قوله صلى الله عليه وسلم (ابغوني في ضعفائكم) اطلبوا رضائي بالإحسان إلى فقرائكم. ومن سعي إلى إرضاء حبيب الرزاق ذي القوة المتين صلى الله عليه وسلم، بالإحسان إلى الفقراء؛ فإن ربه جل جلاله، ينصره على أعدائه ويرزقه...(5) كما وردت نصوص أخرى في القرآن الكريم والحديث الشريف، تدل على أن من أنفق في سبيل الله؛ فإنه - جل جلاله - يخلف عليه في الدنيا إلى جانب ما أعد له من ثواب جزيل في الآخرة، منها قوله تعالى (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِيْنَ) سورة سبأ آية 39 يقول الشيخ ابن عاشور في تفسير الآية: المراد بالإنفاق هنا هو الإنفاق المرغب فيه في الدين كالإنفاق على الفقراء والإنفاق في سبيل الله لنصر الدين. ويقول الحافظ ابن كثير في تفسيرها: أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به، وأباحه لكم، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب. وجاء في تفسير التحرير والتنوير «وظاهر الآية أن إخلاف الرزق يقع في الدنيا وفي الآخرة». ويقول الإمام الرازي: قوله تعالى (وَمَا أنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُه) يحقق معنى قوله عليه الصلاة والسلام (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقًا خلفًا «أي عِوَضًا» ويقول الآخر اللهم أعط مُمْسِكاً تَلَفًا) ففي هذا الحديث الشريف أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ملكا يدعو كل يوم للمنفق بأن يعطيه الله خلفاً، والمراد به كما يقول الملا علي القاري أي عوضاً عظيماً، وهو العوض الصالح أو عوضا في الدنيا وبدلا في العقبى لقوله تعالى (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِيْنَ) ويقول السيد محمد رشيد: ومعنى هذا الدعاء أن من سنن الله أن يخلف على المنفق بما يسهل له من أسباب الرزق، ويرفع به شأنه في القلوب، وأن يحرم البخيل من ذلك. ومعلوم أن دعاء الملائكة مجاب؛ لأنهم لا يدعون لأحد إلا بإذنه جل جلاله، قال تعالى (وَلاَ يَشْفَعُوْنَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) سورة الأنبياء آية 28. وقال تعالى في سورة البقرة آية 268 (الشَّيْطٰنُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً واللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير الآية: اثنان من الله واثنان من الشيطان، (الشَّيْطٰنُ يَعِدكُمُ الْفَقْرَ) يقول: لاتنفق مالك وأمسكه لك؛ فإنك تحتاج إليه، (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) بينما الله - عز وجل - (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) على هذه المعاصي (وفضلاً) في الرزق، فالمغفرة إشارة إلى منافع الآخرة، والفضل إشارة إلى منافع الدنيا، وما يحصل من الرزق والخلف. وقال القاضي ابن عطية في تفسير الآية: والمغفرة هي الستر على عباده في الدنيا والآخرة، والفضل هو الرزق في الدنيا والتوسعة فيه، والتنعيم في الآخرة وبكل وعد الله تعالى. وقال الإمام ابن قيم الجوزية في تفسير الآية: هذا وإن وعده له الفقر ليس شفقة عليه ولا نصيحة له، وأما الله سبحانه وتعالى فإنه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه، وفضلاً بأن يخلف عليه أكثر مما أنفق وأضعافه إما في الدنيا أو في الدنيا والآخرة. والفضل أن يخلف عليهم أفضل مما أنفقوا فيوسع لهم في أرزاقهم وينعم عليهم في الأخرة، بما هو أفضل وأكثر وأجلّ وأجمل. وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال (قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم أَنْفِقْ أُنْفِقْ عليك) الله أكبر! ما أوثقه من ضمان للمنفق وما أيسره وأسهله من طريق لنيل الرزق، ينفق العبد وينفق من بيده ملكوتُ كلِّ شيء عليه!؟. وإذا كان العبد ينفق على قدر استطاعته، فسينفق من له خزائن السماوات والأرض، وملكوت كل شيء، عليه بما يليق بجلاله وعظمته وقدرته. يقول الإمام النووي: قوله المولى عز وجل (أنفق أنفق عليك) هو معنى قوله تعالى (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) فيتضمن الحث على الإنفاق والتبشير بالخلف من فضل الله تعالى. وروى الإمام البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أنفق يا بلال ولا تَخْشَ من ذي العرش إقلالاً) ما أقواه من ضمان للمنفق، هل سيخذل ذوالعرش جل جلاله، من أنفق ماله في سبيه سبحانه وتعالى، فيموت فقرًا وإعدامًا؟ كلا وعزة ربنا وجلاله!. يقول الملا علي القاري في شرح الحديث: (إقلالاً) أي فقرًا وإعدامًا. أي أتخشى أن يضيع مثلك من هو يدبر الأمر من السماء إلى الأرض؟. أي أتخاف أن يخيب أملك، ويقلل رزقك، من رحمته عمت أهل السماء والأرض والمؤمن والكافر والطيور والدواب؟!. وكم من شواهد في كتب السنة والسيرة والتراجم والتاريخ وحتى في واقعنا المعاصر تدل على إخلاف الله تعالى الرزق للمنفق في سبيله. روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتًا في سحابة: اسقِ حديقةَ فلان. فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرّة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟. قال فلان للاسم الذي سمع في السحابة. فقال له: يا عبد الله لم تسألني عن اسمي؟. فقال: (إني سمعت صوتًا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان. لاسمك فما تصنع فيها؟ قال: أما إذا قلتَ هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثًا وأرد فيها ثلثه. وفي رواية واجعل ثلثَه في المساكين والسائلين وابن السبيل. يقول الإمام النووي: وفي الحديث فضل الصدقة والإحسان إلى المساكين وأبناء السبيل وفضل أكل الإنسان من كسبه والإنفاق على العيال...(6).

*  *  *

المراجع:

(1)   فقه الزكاة دراسة مقارنة لأحكامها وفلسفتها في ضوء القرآن والسنة: يوسف القرضاوي ج2 من ص857-858؛ العدالة الاجتماعية في الإسلام: سيد قطب ص95، القرآن الكريم والسلوك الإنساني محمد بهائي سليم ص67.

(2)     فقه الزكاة دراسة مقارنة لأحكامها وفلسفتها في ضوء القرآن والسنة: يوسف القرضاوي ج2 من ص 858 إلى ص 863.

(3)     العبادة في الإسلام؛ يوسف القرضاوي من ص 250 إلى ص 252.

(4)     كتاب مفاتيح الرزق في ضوء الكتاب والسنة: فضل إلهي ص 81 و 82 و 83.

(5)     كتاب مفاتيح الرزق في ضوء الكتاب والسنة: فضل إلهي من ص 65 إلى ص 76.

*  *  *



(*)    6 شارع محمد مسعود متفرع من شارع أحمد إسماعيل، وابور المياه – باب شرق – الإسكندرية ، جمهورية مصر العربية.

      الهاتف : 4204166 ، فاكس : 4291451

      الجوّال : 0101284614

      Email: ashmon59@yahoo.com

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الثاني – جمادى الأولى 1432هـ = مارس - أبريل 2011م ، العدد : 4 - 5 ، السنة : 35